مضى على الشبكة و يوم من العطاء.

[ هام ] كيف تقرا | الجزء الثاني | أسباب ومؤثرات عدم القراءة وتطبيق القراءة في الحياة العملية


edge
linux

السمعة:

1741134902989.webp

الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله

أمّا بَعدْ، سنستكمل السلسلة التي بدأنا بها بالجزء الأوّل وهذا الجزء الثاني
في هذا الموضوع سنتكلم عن اسباب عدم القراءة و مؤثرات عدم القراءة وتطبيق القراءة بالحياة العملية..
القراءة في المنظور الإسلامي ليست مجرد فك الحروف، بل هي سعيٌ للمعرفة، وتدبُّرٌ في آيات الله الكونية والشرعية، ووسيلةٌ لتحصيل الحكمة. أول كلمة نزلت على النبي محمد صلّى الله عليه وسلم كانت "اقْرَأْ" (سورة العلق: ١)، مما يرفع من شأن القراءة كأداة للارتقاء الإنساني. لكنَّ الواقع يُظهر عزوفًا عن القراءة، فما الأسباب الفلسفية والدينية لهذا العزوف؟


١. الكِبر والاستغناء عن العلم:
الغرور بالمعرفة المحدودة قد يُعمي القلب عن طلب المزيد. يقول الله تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" (سورة الأعراف: ١٤٦). فالكِبر يُفسد نية التعلُّم، كما ورد في الحديث: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» (صحيح مسلم).

---
٢. الانشغال بالدُّنيا وزينتها:
الانهماك في الماديات قد يُلهي عن القراءة النافعة. يحذّر القرآن الكريم : "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ" (سورة الحديد: ٢٠). وفي الحديث: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ... فَلَئِنِ اتَّبَعْتُمُوهُمْ لَتَكُونُنَّ كَهَيْئَتِهِمْ» (صحيح البخاري)، إشارةً إلى تقليد غير العاقلين في الانغماس بالدُّنيا.

---

٣. الخوف من المسؤولية العلمية:
المعرفة تُلزم الإنسان بتبعاتها الأخلاقية والعملية. يقول الله تعالى : "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" (سورة الإسراء: ٣٦). فالبعض يتهرّب من القراءة خشيةَ أن يُحاسَب على جهله، أو يُطالَب بتغيير سلوكه، كما في الحديث: «الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيكَانِ فِي الْأَجْرِ، وَلَا خَيْرَ فِي سَائِرِ النَّاسِ» (سنن ابن ماجه).

---

٤. اتّباع الهوى بدل الحق:
قد تُعارض القراءةُ أهواءَ النفس، فتُفضَّل الجهالةُ طمعًا في الراحة الوهمية. يقول تعالى: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ" (سورة الجاثية: ٢٣). والرسول صلى الله عليه وسلم حذّر: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ... فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (سنن الترمذي)، مؤكدًا أن الانحراف عن نية الحق يُفسد طلب العلم.

---

٥. الاتِّكال على آراء الآخرين:
الاعتماد على فتاوى الغير دون بحثٍ يُشجِّع الكسل الفكري. يقول الله تعالى : "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (سورة الأنبياء: ٧)، لكنَّ السؤال يجب أن يكون بدايةً لطلب المعرفة، لا نهايةً. وفي الحديث: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (صحيح البخاري)، مما يربط الفهم بالهمة الشخصية.

---
العزوف عن القراءة ليس مجرد إهمالٍ ثقافي، بل هو أزمةٌ أخلاقية تُذكِّر بجاهلية ما قبل الإسلام. الحلُّ يكمن في إحياء قيمة "اقْرَأْ" كعبادةٍ روحية، واستعادة التوازن بين الدُّنيا والعلم، وتجديد النية لطلب الحق. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (سنن ابن ماجه)، فليس الجهل اختيارًا، بل هو انحرافٌ عن الفطرة الإلهية بهذا، يصبح السعي إلى القراءة جزءًا من السير نحو الله عزّ وجل، وتحريرًا للعقل من أغلال الجهل والهوى.
---
المؤثرات التي تؤدي إلى عدم القراءة بين سطوة الجهل وصرخة المعرفة

القراءة فعلٌ وجودي يُحرِّر الإنسان من أسر الجهل، لكنَّ مسيرتها تواجه عوائقَ متشابكةً تتجذر في أعماق النفس والمجتمع والعقل والروح. ليست المشكلة في افتقاد القدرة على القراءة، بل في شبكة من "الموانع الخفية" التي تُحوِّل الكتاب من جسرٍ نحو العالم إلى جدارٍ يعزله. فكيف تُشكِّل هذه المؤثرات سدودًا أمام انطلاق الفكر؟

---

١. المؤثرات النفسية: هروبٌ من الذات إلى الوهم
الخوف من المواجهة; القراءة مرآةٌ تعكس عيوب الذات وتناقضاتها، مما يخلق رهبةً من اكتشاف الحقائق. يقول الفيلسوف "سورين كيركغور" "أخطر أنواع اليأس هو رفضك أن تكون نفسك". هذا الرفض يدفع البعض إلى الهروب إلى الترفيه الرقمي، حيث لا يُطلب منهم مواجهة ذواتهم.
الإحباط المعرفي: تراكم المعلومات في عصر "الفيض الرقمي" يولّد شعورًا بالعجز، فيختار الإنسان "الجهل المريح" بدلًا من صراع الفهم.

---

٢. المؤثرات الاجتماعية: ثقافةٌ ترفض السؤال
التابوهات الثقافية: بعض المجتمعات تُقدِّس التلقين وتُحرِّم النقد، فتُجَرِّم القراءة التي تُهدِّد المُسَلَّمات. يُصبح الكتاب "خيانةً" للهوية الجمعية، كما يُصوَّر في رواية "فهرنهايت 451" لبرادبري، حيث إحراق الكتب وسيلة لحماية الجماعة من الأسئلة.
التفكك الأسري: غياب الحوار العائلي حول الأفكار يُضعف الحافز للقراءة، فتنشأ أجيالٌ تَرى في الكتابة حروفًا ميتةً بلا معنى.

---

٣. المؤثرات العقلية: إعاقةٌ منهجيةٌ للتفكير
الخمول النقدي: تعوَّد الكثيرون على استهلاك المعلومات الجاهزة عبر منصات التواصل، مما أفقد العقل قدرته على التحليل. يُشير الفيلسوف "نيتشه" إلى أن "الكسل أصل كل فلسفة رديئة".
الاستلاب اللغوي: ضعف المهارات اللغوية — نتيجةً لهيمنة الصورة — يُحوِّل القراءة إلى عملية مُجهدة، فيُفضَّل "الوجبة السريعة" للمحتوى المرئي.

---

٤. المؤثرات الدينية: تشويهٌ لصورة العلم
التفسير المُتحجِّر للدين: بعض الخطابات الدينية تُروِّج لفكرة أن العلم "الدنيوي" صراعٌ مع الإيمان، مُستشهدةً بآياتٍ خارج سياقها، مثل: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا"(طه: ١٢٤)، دون فهم أن "الذكرى" تشمل كل معرفة نافعة.
الانغلاق المذهبي: تحويل التراث الديني إلى نصوصٍ مُقدَّسةٍ لا تُمسّ — بدلًا من فهمها كحوارٍ مستمر — يُقتل سؤالُ القارئ قبل أن يولد. يُحذِّر الحديث النبوي: «مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى عِلْمِهِ ضَلَّ» (شعب الإيمان للبيهقي).

---

هل يمكن تحطيم السدود؟
القراءة ليست ترفًا، بل مقاومةٌ وجودية ضد كل أشكال الاستلاب. تحرير الإنسان منها يتطلب:
نفسيًا: مواجهة الذات بشجاعة، كما دعا القرآن الكريم إلى "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا" (الشمس: ٩).
اجتماعيًا: بناء مجتمعاتٍ تُكافئ الأسئلةَ أكثر من الأجوبة.
عقليًا: تدريب العقل على التمرد على "البديهيات".
دينيًا: استعادة الفهم الشمولي للدين كحافزٍ للاستكشاف، لا كسجنٍ للفكر.

هكذا، قد نعيد للقراءة دورها كـ "جهاد" ضد الجهل، جهادٌ لا يحتاج إلى سيفٍ إلا سيف العقل والروح.
---

تطبيق القراءة في الحياة العملية — جهاد الوجود بين العقل والواقع

القراءة كفعلٍ وجودي مُرتبط بالمصير :
القراءة ليست هروبًا من الواقع، بل هي انغماسٌ أعمق فيه، إنها محاولةٌ لتحويل الحروف إلى حركة، والمعرفة إلى أخلاق، والنصوص إلى واقع. لكن كيف تتحول القراءة من "ترف فكري" إلى "ممارسة يومية" تُغيِّر الذات والمجتمع؟ هذا السؤال يربطنا بجوهر الموضوعين السابقين: أسباب العزوف عن القراءة، والمؤثرات التي تُعيقها. فالتطبيق العملي للقراءة هو الوجه الآخر لمواجهة تلك العوائق، وكسر القيود التي تحدثنا عنها.

---

١. القراءة كأداةٍ لتزكية النفس: مواجهة الكِبر والخوف
(ارتباط بالموضوع الأول: الكِبر والهروب من المسؤولية)
القراءة تطهيرٌ للذات من أدران الجهل والغرور. حين نقرأ، نُجبر على مواجهة نقائصنا، كما قال ألبير كامو :"لا نقرأ لنكون أكثر ذكاءً، بل لنكون أقل وحدة". هذا التطهير يتطلب شجاعةً تُذيب الكِبر، وتُحوِّل الخوف من المسؤولية إلى قوةٍ للعمل. القرآن يربط العلم بالتقوى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: ٢٨). فالتطبيق العملي يبدأ حين نستخدم القراءة لمراجعة الذات، لا لتعزيز الأنا.

---

٢. القراءة كفعلٍ اجتماعي: تفكيك التابوهات وبناء الحوار
(ارتباط بالموضوع الثاني: التابوهات الثقافية والتفكك الأسري)
القراءة الجَماعية تُعيد تشكيل الوعي الجمعي. حين تقرأ عائلةٌ كتابًا معًا، أو يناقش مجتمعٌ أفكارًا مُختلفةً، تتحول القراءة إلى جسرٍ للفهم بدلًا من كونها تهديدًا للهوية. النبي محمد صلى الله عليه وسلم جعل القراءة (الوحي) أساسًا لبناء أمةٍ جديدة، حيث تحوَّلت القبيلة المتصارعة إلى حضارةٍ تناقش العدل في سوق المدينة. التطبيق هنا يعني تحويل الكتب إلى مائدة حوار، كما فعلت أوروبا في عصر التنوير، حين حوَّلت المقاهي إلى صالونات فكرية.

---

٣. القراءة كتمردٍ عقلي: إحياء النقد وتحرير اللغة
(ارتباط بالموضوع الثاني: الخمول النقدي والاستلاب اللغوي)
القراءة العميقة هي تمرينٌ يومي على التمرد. كل كتاب يُقلب الصفحات هو ثورةٌ على "الجهل المُريح". الفيلسوف "كانط" رأى في القراءة شرطًا للخروج من "القصور الذاتي"، لكن هذا الخروج يتطلب إجادةً لغويةً تُمكِّن العقل من التفكير بحرية. التطبيق العملي هنا هو تحدي "ثقافة اللايف ستايل" السطحية، واستبدالها بقراءاتٍ تدفع العقل إلى التساؤل، كما فعل" ابن رشد" حين حوَّل النصوص الفلسفية إلى أدواتٍ لفهم الدين.

---

٤. القراءة كعبادةٍ روحية: الجمع بين العلم والإيمان
(ارتباط بالموضوع الأول: الاتكال على الآراء، والموضوع الثاني: التفسير المتحجر للدين)
أعظم تطبيقٍ للقراءة هو تحرير الدين من الجمود. حين نقرأ القرآن الكريم بتدبُّر — كما أمر الله: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ" (ص: ٢٩) — نكتشف أن الإيمان الحقيقي يُحفِّز على استكشاف الكون، لا على الانغلاق. العلماء المسلمون الأوائل — مثل "ابن سينا" و"الخوارزمي"— طبقوا هذا المبدأ، فجعلوا من القراءة عبادةً تُنتج علمًا يفيد البشرية.

---

القراءة مشروع حياة
القراءة في تطبيقها العملي هي محاولةٌ لتحقيق المعادلة الصعبة: أن تعيش كما تقرأ، وأن تقرأ كما تعيش. هذا الربط بين الفكر والواقع هو ما يُحطم كل العوائق التي ذكرناها سابقًا:
-نفسيًا: تحوِّل الكِبر إلى تواضع، والخوف إلى شجاعة.
-اجتماعيًا: تحوِّل التابوهات إلى أسئلة، والتفكك إلى وحدة.
-عقليًا: تحوِّل الخمول إلى إبداع، والاستلاب إلى تحرر.
-دينيًا: تحوِّل الجمود إلى اجتهاد، والاتكال إلى مسؤولية.

هكذا، ليست القراءة مجرد هواية، بل هي "خلقٌ جديد" للإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : *«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». فالتجديد يبدأ بكتابٍ نقرأه، ثم نُطبقه كأنه آخر ما نقرأ.

وبالختام نقول سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا انت استغفرك واتوب اليك
اللهم صلي وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
فان اخطات فمن نفسي ومن الشيطان الرجيم وان اصبت فمن الله وعلمه وفضله
اللهم ثبت المجاهدين المرابطين في غزه وفلسطين والسودان وان يسدد خطى اخواننا المسلمين في كل مكان وزمان

ان شاء الله سنتكلم في الجزء الثالث عن الأثر المُكتسب من القراءة وعلاقة القراءة في الوصول إلى أهداف في الحياة العملية
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

آخر المشاركات

فانوس

رمضان
عودة
أعلى