مضى على الشبكة و يوم من العطاء.

الحديثُ السادس | الأربعون النووية

لينا عقللينا عقل is verified member.

|| مشرف القسم العام ||
.:: طاقم المشرفين ::.

السمعة:


بسم الله الرحمن الرحيم
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ، إِنَّ الحلال بيِّنٌ وإن الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهات لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَن اتَّقى الشَّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحَمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكِ حمى ، ألا وإِنَّ حَمَى اللَّهِ محَارِمُهُ ، أَلَا وَإِنَّ في الجَسَد مُضغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ" َوإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلَّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ . .

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمِ.
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة . قال أبو داود السجستاني الإسلام يدور على أربعة أحاديث ، ذكر منها هذا الحديث ؛ وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده .

قوله ( إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات )
يعني أن الأشياء ثلاثة أقسام : فما نص الله على تحليله فهو الحلال كقوله تعالى
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾
وكقوله ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ﴾
ونحو ذلك ، وما نص الله على تحريمه فهو الحرام البيِّن، مثل قوله تعالى
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
وقوله ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾
وكتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وكل ما جعل الله فيه حدًّا أو عقوبة أو وعيدًا فهو حرام ؛ وأما الشبهات فهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة و تتجاذبه المعاني ، فالإمساك عنه ورع .

وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، فقالت طائفة : هي حرام لقوله (استبرأ لدينه وعرضه) قالوا : ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه فقد وقع فى الحرام . وقال الآخرون : هي حلال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ( كالراعي يرعي حول الحمى ) فيدل على أن ذلك حلال . وأن تركه ورع . وقالت طائفة أخرى : المشتبهات المذكورة في هذا الحديث لا تقول إنها حلال ولا إنها حرام ، فإنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين الحلال البيِّن والحرام البيِّن ، فينبغي أن تتوقف عنها ، وهذا من باب الورع أيضًا .

وقد ثبت في حديث الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام ، فقال سعد : يا رسول الله ، هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص . عهد إليّ أنه ابنه ، انظر إلى شبهه . وقال عبد بن زمعة ، هذا أخي يارسول الله ، ولد على فراش أبي من وليدته ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى شبهًا بيِّنا بعتبة ، (فقال هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش والعاهر للحجر ، واحتجبي منه يا سودة ) فلم تره سودة قط ، فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وأنه لزمعة على الظاهر ، وأنه أخو سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بنت زمعة ، وذلك على سبيل التغليب لا على سبيل القطع ، ثم أمر سودة بالاحتجاب منه للشبهة الداخلة عليه ، فاحتاط لنفسه وذلك من فعل الخائفين من الله عز وجل ، إذ لو كان الولد ابن زمعة في علم الله عز وجل لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوتها : عبد وغيره ؛ وفي حديث عديّ بن حاتم أنه قال : يارسول الله ، إنى أرسل كلبي وأسمي عليه ؛ فأجد معه على الصيد كلبًا آخر ؛ قال (لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشبهة أيضا خوفًا من أن يكون الكلب الذي قتله غير مسمى عليه ، فكأنه أُهل لغير الله به ؛ وقد قال الله تعالى في ذلك
﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ﴾

فكان فى فتواه صلى الله عليه وسلم دلالة على الاحتياط في الحوادث والنوازل المحتملة للتحليل والتحريم لاشتباه أسبابها ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) وقال بعض العلماء : المشتبهات ثلاثة أقسام : منها ما يعلم الإنسان أنه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا؟ كالذي يحرم على المرء أكله قبل الذكاة إذا شك فى ذكاته لم يزل التحريم إلا يبقين الذكاة ، والأصل في ذلك حديث عديّ المتقدم ذكره ؛ وعكس ذلك أن يكون الشيء حلالا فيُشك في تحريمه ، كرجل له زوجة فشك في طلاقها ، أو أمة فيشك في عتقها ، فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يعلم تحريمه ، والأصل في هذا حديث عبد الله بن زيد فيمن شك في الحدث بعد أن تيقّن الطهارة .


القسم الثالث : أن يشك في شيء فلا يدري أحلال أم حرام ؟ و يحتمل الأمرين جميعًا، ولا دلالة على أحدهما ؛ فالأحسن التنزه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فى التمرة الساقطة حين وجدها في بيته فقال (لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) وأما إن جوّز نقيض ما ترجح عنده بأمر موهوم لا أصل له ، كترك استعمال ماء باق على أوصافه مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه ، أو كترك الصلاة في موضع لا أثر فيه مخافة أن يكون فيه بول قد جف ، أو كغسل ثوب مخافة إصابة نجاسة لم يشاهدها ونحو ذلك ، فهذا يجب أن لا يلتفت إليه ، فإن التوقف لأجل ذلك التجويز هوس ، والورع منه وسوسة شيطان ، إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء والله أعلم .


وقوله : صلى الله عليه وسلم (لا يعلمهن كثير من الناس) أي لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم ، وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث إنها مشكلة لترددها بين أمور محتملة ، فإذا علم بأي أصل يلتحق زال كونها شبهة وكانت إما من الحلال أو من الحرام ، وفيه دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها يدل عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض الناس .


وقوله ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) مما يُشتبه : وأما قوله (ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام) فذلك يكون بوجهين أحدهما : أن من لم يتقّ الله وتجرّأ على الشبهات أفضت به إلى المحرمات ويحمله التساهل فى أمرها على الجرأة على الحرام، كما قال بعضهم :

الصغيرة تجرّ الكبيرة، والكبيرة تجر الكفر . وكما روى ( المعاصي بريد الكفر) الوجه الثاني: أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه ، لفقدان نور العلم ونور الورع ، فيقع في الحرام وهو لا يشعر به .
وقد يأثم بذلك إذا تسبب منه إلى تقصير ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) هذا مثل ضربه لمحارم الله عز وجل.

وأصله أن العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها : ويخرج بالتوعد بالعقوبة لمن قربها ؛ فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته عن ذلك الحمى ، لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه ؛ لأنه قد تنفرد الفاذة وتشذ الشاذة ولا ينضبط ؛ فالحذر : أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك ، وهكذا محارم الله عز وجل ؛ من القتل ، والربا، والسرقة ، وشرب الخمر ، والقذف، والغيبة ، والنميمة ، ونحو ذلك : لا ينبغى أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها ؛ و (يوشِك) بكسر الشين مضارع أوشك ، بفتحها ، وهي من أفعال المغاربة ؛ و (يرتَع) بفتح التاء معناها : أكل الماشية من المرعى . وأصله إقامتها فيه وبسطها في الأكل ، وقوله صلى الله عليه وسلم (ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله) ؛ و المضغة، القطعة من اللحم ، وهى قدر ما يمضغه الماضع، يعنى بذلك صغر جرمها وعظيم قدرها ؛ و (صلحت) رويناه بفتح اللام ، و (القلب) في الأصل مصدر ، وسُمي به هذا العضو الذي هو أشرف الأعضاء لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه .

وأنشد بعضهم في هذا المعنى :

ماسمي القلب إلا من تقلبه
فاحذر على القلب من قلب وتحويل

وخصّ الله تعالى جنس الحيوان بهذا العضو ، وأودع فيه تنظيم المصالح المقصودة، تتجد البهائم على اختلاف أنواعها تدرك به مصالحها و تميّز به مضارها من منافعها ؛ ثم خص الله نوع الإنسان من سائر الحيوان بالعقل وأضافه إلى القلب فقال تعالى
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ ۗ﴾
وقد جعل الله الجوارح مُسخّرة له ومطيعة ، فما استقر فيه . ظهر عليها وعملت على معناه : إن خيراً خير وإن شرًا فشر .

فإذا فهمت هذا ظهر لك قوله صلى الله عليه وسلم ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هى القلب)

نسأل الله العظيم أن يُصلح فساد قلوبنا ،

يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ،
يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك .

الحمدلله رب العالمين
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

بسم الله الرحمن الرحيم


رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمِ.
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة . قال أبو داود السجستاني الإسلام يدور على أربعة أحاديث ، ذكر منها هذا الحديث ؛ وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده .

قوله ( إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات )
يعني أن الأشياء ثلاثة أقسام : فما نص الله على تحليله فهو الحلال كقوله تعالى
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾
وكقوله ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ﴾
ونحو ذلك ، وما نص الله على تحريمه فهو الحرام البيِّن، مثل قوله تعالى
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
وقوله ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾
وكتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وكل ما جعل الله فيه حدًّا أو عقوبة أو وعيدًا فهو حرام ؛ وأما الشبهات فهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة و تتجاذبه المعاني ، فالإمساك عنه ورع .

وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، فقالت طائفة : هي حرام لقوله (استبرأ لدينه وعرضه) قالوا : ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه فقد وقع فى الحرام . وقال الآخرون : هي حلال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ( كالراعي يرعي حول الحمى ) فيدل على أن ذلك حلال . وأن تركه ورع . وقالت طائفة أخرى : المشتبهات المذكورة في هذا الحديث لا تقول إنها حلال ولا إنها حرام ، فإنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين الحلال البيِّن والحرام البيِّن ، فينبغى أن تتوقف عنها ، وهذا من باب الورع أيضًا .

وقد ثبت في حديث الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام ، فقال سعد : يا رسول الله ، هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص . عهد إليّ أنه ابنه ، انظر إلى شبهه . وقال عبد بن زمعة ، هذا أخي يارسول الله ، ولد على فراش أبي من وليدته ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى شبهًا بيِّنا بعتبة ، (فقال هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش والعاهر للحجر ، واحتجبي منه يا سودة ) فلم تره سودة قط ، فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وأنه لزمعة على الظاهر ، وأنه أخو سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بنت زمعة ، وذلك على سبيل التغليب لا على سبيل القطع ، ثم أمر سودة بالاحتجاب منه للشبهة الداخلة عليه ، فاحتاط لنفسه وذلك من فعل الخائفين من الله عز وجل ، إذ لو كان الولد ابن زمعة في علم الله عز وجل لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوتها : عبد وغيره ؛ وفي حديث عديّ بن حاتم أنه قال : يارسول الله ، إنى أرسل كلبي وأسمي عليه ؛ فأجد معه على الصيد كلبًا آخر ؛ قال (لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشبهة أيضا خوفًا من أن يكون الكلب الذي قتله غير مسمى عليه ، فكأنه أُهل لغير الله به ؛ وقد قال الله تعالى في ذلك
﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ﴾

فكان فى فتواه صلى الله عليه وسلم دلالة على الاحتياط في الحوادث والنوازل المحتملة للتحليل والتحريم لاشتباه أسبابها ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) وقال بعض العلماء : المشتبهات ثلاثة أقسام : منها ما يعلم الإنسان أنه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا؟ كالذي يحرم على المرء أكله قبل الذكاة إذا شك فى ذكاته لم يزل التحريم إلا يبقين الذكاة ، والأصل في ذلك حديث عديّ المتقدم ذكره ؛ وعكس ذلك أن يكون الشيء حلالا فيُشك في تحريمه ، كرجل له زوجة فشك في طلاقها ، أو أمة فيشك في عتقها ، فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يعلم تحريمه ، والأصل في هذا حديث عبد الله بن زيد فيمن شك في الحدث بعد أن تيقّن الطهارة .


القسم الثالث : أن يشك في شيء فلا يدري أحلال أم حرام ؟ و يحتمل الأمرين جميعًا، ولا دلالة على أحدهما ؛ فالأحسن التنزه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فى التمرة الساقطة حين وجدها في بيته فقال (لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) وأما إن جوّز نقيض ما ترجح عنده بأمر موهوم لا أصل له ، كترك استعمال ماء باق على أوصافه مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه ، أو كترك الصلاة في موضع لا أثر فيه مخافة أن يكون فيه بول قد جف ، أو كغسل ثوب مخافة إصابة نجاسة لم يشاهدها ونحو ذلك ، فهذا يجب أن لا يلتفت إليه ، فإن التوقف لأجل ذلك التجويز هوس ، والورع منه وسوسة شيطان ، إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء والله أعلم .


وقوله : صلى الله عليه وسلم (لا يعلمهن كثير من الناس) أي لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم ، وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث إنها مشكلة لترددها بين أمور محتملة ، فإذا علم بأي أصل يلتحق زال كونها شبهة وكانت إما من الحلال أو من الحرام ، وفيه دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها يدل عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض الناس .


وقوله ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) مما يُشتبه : وأما قوله (ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام) فذلك يكون بوجهين أحدهما : أن من لم يتقّ الله وتجرّأ على الشبهات أفضت به إلى المحرمات ويحمله التساهل فى أمرها على الجرأة على الحرام، كما قال بعضهم :

الصغيرة تجرّ الكبيرة، والكبيرة تجر الكفر . وكما روى ( المعاصي بريد الكفر) الوجه الثاني: أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه ، لفقدان نور العلم ونور الورع ، فيقع في الحرام وهو لا يشعر به .
وقد يأثم بذلك إذا تسبب منه إلى تقصير ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) هذا مثل ضربه لمحارم الله عز وجل.

وأصله أن العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها : ويخرج بالتوعد بالعقوبة لمن قربها ؛ فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته عن ذلك الحمى ، لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه ؛ لأنه قد تنفرد الفاذة وتشذ الشاذة ولا ينضبط ؛ فالحذر : أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك ، وهكذا محارم الله عز وجل ؛ من القتل ، والربا، والسرقة ، وشرب الخمر ، والقذف، والغيبة ، والنميمة ، ونحو ذلك : لا ينبغى أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها ؛ و (يوشِك) بكسر الشين مضارع أوشك ، بفتحها ، وهي من أفعال المغاربة ؛ و (يرتَع) بفتح التاء معناها : أكل الماشية من المرعى . وأصله إقامتها فيه وبسطها في الأكل ، وقوله صلى الله عليه وسلم (ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله) ؛ و المضغة، القطعة من اللحم ، وهى قدر ما يمضغه الماضع، يعنى بذلك صغر جرمها وعظيم قدرها ؛ و (صلحت) رويناه بفتح اللام ، و (القلب) في الأصل مصدر ، وسُمي به هذا العضو الذي هو أشرف الأعضاء لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه .

وأنشد بعضهم في هذا المعنى :

ماسمي القلب إلا من تقلبه
فاحذر على القلب من قلب وتحويل

وخصّ الله تعالى جنس الحيوان بهذا العضو ، وأودع فيه تنظيم المصالح المقصودة، تتجد البهائم على اختلاف أنواعها تدرك به مصالحها و تميّز به مضارها من منافعها ؛ ثم خص الله نوع الإنسان من سائر الحيوان بالعقل وأضافه إلى القلب فقال تعالى
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ ۗ﴾
وقد جعل الله الجوارح مُسخّرة له ومطيعة ، فما استقر فيه . ظهر عليها وعملت على معناه : إن خيراً خير وإن شرًا فشر .

فإذا فهمت هذا ظهر لك قوله صلى الله عليه وسلم ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هى القلب)

نسأل الله العظيم أن يُصلح فساد قلوبنا ،

يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ،
يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك .

الحمدلله رب العالمين
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا
 

آخر المشاركات

فانوس

رمضان
عودة
أعلى