




السمعة:
- إنضم3 يوليو 2024
- المشاركات 132
- مستوى التفاعل 317
- النقاط 63
بسم الله الرحمن الرحيم
اليوم سأتحدث عن سيرة رجل من القلائل، صاحب الرأي السديد والموقف الثابت، الذي زاوج بتلقائية وصلابة واعية بين مهمة الفقيه، ومهمة صاحب الرسالة الإصلاحية حين يضع الرأي في مكانه، ويثبت عليه مهما كلف من أمر، ومهما كانت التبعات، فلم يشغله العلم عن مقاومة الظلم ومواجهة الحُكام والجهاد ضد الأعداء، بل وظفه لخدمة كل ذلك، سيرته ومواقفه يتطلع لها كل متشوق للعدالة والحرية هروبًا من هذا الزمن الذي ندر فيه الإخلاص للحق قولًا وفعلًا، وكثر فيه خدّام السلاطين من أهل الدين والعلم الذين يضعون فتاواهم وعلمهم تحت الطلب.
إنه « عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاةً، والشافعي مذهباً »، الإمام والفقيه والعالِم، مُقاوم الظلم والطغيان، الذي كانت تخشاه السلاطين والملوك.
ولد الإمام العزّ بن عبد السلام في دمشق عام 577هـ – 1181م، وعاش فيها وبرز في الدعوة والفقه، وقد نشأ في كنف أسرة متدينة فقيرة مغمورة لم يكن لها مجد أو سلطان أو منصب أو علم، حيث كان أبوه شديد الفقر، وحين شب الطفل ساعد أباه في بعض الأعمال الشاقة مثل إصلاح الطرق والتنظيف أمام محلات التجار، وعندما مات الأب ولم يجد من يؤويه، توسط له الشيخ فخر الدين ابن عساكر، للعمل في الجامع الأموي، فساعد الكبار في أعمال النظافة، وكان ينام ليلًا في زاوية بأحد دهاليز الجامع على الرخام، وفي ظل هذه الظروف الصعبة لم يستطع العز أن يطلب العلم في الصغر، لكنه كان يشاهد حلقات العلم في المسجد بحكم عمله فيه، وكم تمنى أن يكون بين التلاميذ، إلى أن تعهده ابن عساكر وأمر بتعليمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن، أقبل العز على الكتب بشغف كبير، وعوّض ما فاته من سنين الدرس، إلى أن اطمأن ابن عساكر لمستواه، وضمه لحلقات درسه بعد أن دفع إليه ما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور جلسات العلم.
مواقفه الخالدة:
في أيام حكم الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، تولى العزّ خطابة جامع بني أمية الكبير بدمشق، وبعد فترة قاتل الملك الصالح ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، حاكم مصر آنذاك؛ لانتزاع السلطة منه، فوالى الصليبين وأعطاهم حصن الصفد والثقيف، وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والتزود بالطعام وغيره.
فاستنكر العز ذلك، وصعد المنبر وخطب في الناس خطبة قوية، فأفتى بحُرمة بيع السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصلح معهم، وقال في آخر خطبته: «اللهم أبرم أمرًا رشدًا لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، ثم نزل دون الدعاء للحاكم الصالح، فاعتبر الملك ذلك عصيانًا، وغضب وسجن العز، فلما تأثر الناس بذلك، أخرجه الملك من سجنه وأمر بإبعاده عن الخطابة في الجوامع.
و ذات مرة، أثناء مفاوضات بين الملك الصالح والفرنجة، أراد السلطان عقد هدنة مع الصليبيين مقابل تنازلات مادية أو سياسية رأى العز بن عبد السلام أنها مُجحفة بحق المسلمين وتتنافى مع مبادئ الشريعة. فرفض العز أن يُصدر فتوى تُشرع هذه الاتفاقية، معتبرًا أنها تُمكّن الأعداء من أراضي المسلمين دون وجه حق.
غضب الملك الصالح من موقف العز، فأمر بحبسه في خيمة مجاورة لمعسكره، كي يُرهبه أو يُجبره على التراجع. لكن العز لم يتراجع، بل ظل مُصِرًا على موقفه، وواصل تلاوة القرآن في الخيمة، كرمز لثباته على الحق.
يُروى أن الملك الصالح كان يستقبل وفداً من الفرنجة في خيمته و سمعوا تلاوة القرآن من خيمة العز فأخذ الملك يتفاخر أمام الوفد بما فعله بالعز لأجلهم إذ هم يقولون له:
"كيف تسجنون رجلاً يدافع عن دينه و أمته؟!لو كان هذا الرجل معنا لرفعناه على أيدينا!" و هذا الكلام هزَّ الملك الصالح و جعله يدرك خطأه.
بعد أيام، اضطر الملك الصالح إلى الرضوخ لرأي العز بن عبد السلام، وألغى الاتفاقية مع الفرنجة، أو عدّلها بما يتوافق مع الشرع. وقيل أن العز اشترط تحرير أموال بيت المال من المصادر غير الشرعية قبل استخدامها في الصراع، مما أجبر السلطان على تطهير تلك الأموال.
تُشير تسمية العز بن عبد السلام بـ "بائع الأمراء" إلى موقفٍ جريءٍ آخر من مواقفه الشهيرة التي تَجلَّى فيها صلابةُ العالِم في مواجهةِ الحُكَّامِ وانحرافاتِهم.
بعد أن تولى العز بن عبد السلام منصب قاضي القضاة في مصر زمن الدولة الأيوبية، لاحظ أن كثيرًا من الأمراء والمماليك (الجنود الذين كانوا يُشترون كعبيد ويُدربون للقتال) يَتَسلطون على الناس دون وجه شرعي، إذ كانوا ما زالوا -من الناحية الشرعية- عبيدًا مملوكين لبيت مال المسلمين، ولم يُحرَّروا بشكلٍ رسمي، وبالتالي لا يحق لهم تولي المناصب أو التصرف في أموال الدولة.
رفض العز بن عبد السلام أن يُقِرَّ لهؤلاء الأمراء والمماليك شرعيةً في مناصبهم أو أملاكهم طالما أنهم لم يُعتقوا تحريرًا شرعيًّا، وقال كلمته الشهيرة: "هؤلاء المماليك عبيد لبيت مال المسلمين، ولا يحق لهم أن يحكموا أو يمتلكوا أموالًا حتى يُباعوا ويُحرَّروا!".
استشاط السلطان غضبًا من هذا الموقف، خاصةً أن المماليك كانوا عماد جيشه وقوته، فهدد العز بن عبد السلام، لكن الأخير أصر على موقفه، قائلًا:
"إن لم تُحرِّروهم فأنا أرفض أن أنظر في قضاياهم أو أُقر لهم بمنصب!".
اضطر السلطان تحت ضغط الشرع وقوة حجة العز إلى تنظيم عملية "بيع" رمزية لهؤلاء المماليك أمام القضاء!
جُمِعَ الأمراء والمماليك، وقُدِّر ثمن كلِّ واحدٍ منهم، ثم "بِيعوا" لأنفسهم بمالٍ من خزينتهم الخاصة، ليصبحوا بعدها"أحرارًا"شرعًا، ويحق لهم تولي المناصب.
ومن هنا لُقِّب العز ب "بائع الأمراء" لأنه باعهم لأنفسهم ليُطهِّرَ ولايتهم من شبهة العبودية.
و موقف آخر من مواقفه الخالدة حدث بعد وصول «قطز» لسدّة الحكم في مصر ظهر خطر التتار و وصلت أخبار فظائعهم، فعمل العزَّ على تحريض الحاكم واستنفاره لملاقاة التتار الزاحفين، ولما أمر قطز بجمع الأموال من الرعية للإعداد للحرب، وقف العز في وجهه، وطالبه ألا يأخذ شيئًا من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يُخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم المقادير التي تتناسب مع غناهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق، فإذا لم تكفِ هذه الأموال للإعداد للمعركة، فليفرض ضرائب على الناس، فنزل قطز على حكمه. وخرج المسلمون للقاء المغول في معركة «عين جالوت» وانتصروا.
استمر العز بعلمه وهيبته وحب الناس له، إلى أن وافته المنية عام 660 هـ – 1262م، وهو يبلغ من العمر ثلاثًا وثمانين عامًا، ومما يُروى أنه عندما بلغ السلطان بيبرس وفاته قال: «لم يستقر ملكي إلا الساعة، لأنه لو أمر الناس فيَّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره»، أي أنه لو قال للناس اخرجوا عليه لانتزاع الملك منه لبادورا لأمره.
رحمَ الله سلطان العلماء العز بن عبد السلام
و أكثَرَ من أمثاله.
المصادر:
-كتاب قصة التتار للدكتور راغب السرجاني
-الجزيرة نت
اليوم سأتحدث عن سيرة رجل من القلائل، صاحب الرأي السديد والموقف الثابت، الذي زاوج بتلقائية وصلابة واعية بين مهمة الفقيه، ومهمة صاحب الرسالة الإصلاحية حين يضع الرأي في مكانه، ويثبت عليه مهما كلف من أمر، ومهما كانت التبعات، فلم يشغله العلم عن مقاومة الظلم ومواجهة الحُكام والجهاد ضد الأعداء، بل وظفه لخدمة كل ذلك، سيرته ومواقفه يتطلع لها كل متشوق للعدالة والحرية هروبًا من هذا الزمن الذي ندر فيه الإخلاص للحق قولًا وفعلًا، وكثر فيه خدّام السلاطين من أهل الدين والعلم الذين يضعون فتاواهم وعلمهم تحت الطلب.
إنه « عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاةً، والشافعي مذهباً »، الإمام والفقيه والعالِم، مُقاوم الظلم والطغيان، الذي كانت تخشاه السلاطين والملوك.
ولد الإمام العزّ بن عبد السلام في دمشق عام 577هـ – 1181م، وعاش فيها وبرز في الدعوة والفقه، وقد نشأ في كنف أسرة متدينة فقيرة مغمورة لم يكن لها مجد أو سلطان أو منصب أو علم، حيث كان أبوه شديد الفقر، وحين شب الطفل ساعد أباه في بعض الأعمال الشاقة مثل إصلاح الطرق والتنظيف أمام محلات التجار، وعندما مات الأب ولم يجد من يؤويه، توسط له الشيخ فخر الدين ابن عساكر، للعمل في الجامع الأموي، فساعد الكبار في أعمال النظافة، وكان ينام ليلًا في زاوية بأحد دهاليز الجامع على الرخام، وفي ظل هذه الظروف الصعبة لم يستطع العز أن يطلب العلم في الصغر، لكنه كان يشاهد حلقات العلم في المسجد بحكم عمله فيه، وكم تمنى أن يكون بين التلاميذ، إلى أن تعهده ابن عساكر وأمر بتعليمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن، أقبل العز على الكتب بشغف كبير، وعوّض ما فاته من سنين الدرس، إلى أن اطمأن ابن عساكر لمستواه، وضمه لحلقات درسه بعد أن دفع إليه ما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور جلسات العلم.
مواقفه الخالدة:
في أيام حكم الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، تولى العزّ خطابة جامع بني أمية الكبير بدمشق، وبعد فترة قاتل الملك الصالح ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، حاكم مصر آنذاك؛ لانتزاع السلطة منه، فوالى الصليبين وأعطاهم حصن الصفد والثقيف، وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والتزود بالطعام وغيره.
فاستنكر العز ذلك، وصعد المنبر وخطب في الناس خطبة قوية، فأفتى بحُرمة بيع السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصلح معهم، وقال في آخر خطبته: «اللهم أبرم أمرًا رشدًا لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، ثم نزل دون الدعاء للحاكم الصالح، فاعتبر الملك ذلك عصيانًا، وغضب وسجن العز، فلما تأثر الناس بذلك، أخرجه الملك من سجنه وأمر بإبعاده عن الخطابة في الجوامع.
و ذات مرة، أثناء مفاوضات بين الملك الصالح والفرنجة، أراد السلطان عقد هدنة مع الصليبيين مقابل تنازلات مادية أو سياسية رأى العز بن عبد السلام أنها مُجحفة بحق المسلمين وتتنافى مع مبادئ الشريعة. فرفض العز أن يُصدر فتوى تُشرع هذه الاتفاقية، معتبرًا أنها تُمكّن الأعداء من أراضي المسلمين دون وجه حق.
غضب الملك الصالح من موقف العز، فأمر بحبسه في خيمة مجاورة لمعسكره، كي يُرهبه أو يُجبره على التراجع. لكن العز لم يتراجع، بل ظل مُصِرًا على موقفه، وواصل تلاوة القرآن في الخيمة، كرمز لثباته على الحق.
يُروى أن الملك الصالح كان يستقبل وفداً من الفرنجة في خيمته و سمعوا تلاوة القرآن من خيمة العز فأخذ الملك يتفاخر أمام الوفد بما فعله بالعز لأجلهم إذ هم يقولون له:
"كيف تسجنون رجلاً يدافع عن دينه و أمته؟!لو كان هذا الرجل معنا لرفعناه على أيدينا!" و هذا الكلام هزَّ الملك الصالح و جعله يدرك خطأه.
بعد أيام، اضطر الملك الصالح إلى الرضوخ لرأي العز بن عبد السلام، وألغى الاتفاقية مع الفرنجة، أو عدّلها بما يتوافق مع الشرع. وقيل أن العز اشترط تحرير أموال بيت المال من المصادر غير الشرعية قبل استخدامها في الصراع، مما أجبر السلطان على تطهير تلك الأموال.
تُشير تسمية العز بن عبد السلام بـ "بائع الأمراء" إلى موقفٍ جريءٍ آخر من مواقفه الشهيرة التي تَجلَّى فيها صلابةُ العالِم في مواجهةِ الحُكَّامِ وانحرافاتِهم.
بعد أن تولى العز بن عبد السلام منصب قاضي القضاة في مصر زمن الدولة الأيوبية، لاحظ أن كثيرًا من الأمراء والمماليك (الجنود الذين كانوا يُشترون كعبيد ويُدربون للقتال) يَتَسلطون على الناس دون وجه شرعي، إذ كانوا ما زالوا -من الناحية الشرعية- عبيدًا مملوكين لبيت مال المسلمين، ولم يُحرَّروا بشكلٍ رسمي، وبالتالي لا يحق لهم تولي المناصب أو التصرف في أموال الدولة.
رفض العز بن عبد السلام أن يُقِرَّ لهؤلاء الأمراء والمماليك شرعيةً في مناصبهم أو أملاكهم طالما أنهم لم يُعتقوا تحريرًا شرعيًّا، وقال كلمته الشهيرة: "هؤلاء المماليك عبيد لبيت مال المسلمين، ولا يحق لهم أن يحكموا أو يمتلكوا أموالًا حتى يُباعوا ويُحرَّروا!".
استشاط السلطان غضبًا من هذا الموقف، خاصةً أن المماليك كانوا عماد جيشه وقوته، فهدد العز بن عبد السلام، لكن الأخير أصر على موقفه، قائلًا:
"إن لم تُحرِّروهم فأنا أرفض أن أنظر في قضاياهم أو أُقر لهم بمنصب!".
اضطر السلطان تحت ضغط الشرع وقوة حجة العز إلى تنظيم عملية "بيع" رمزية لهؤلاء المماليك أمام القضاء!
جُمِعَ الأمراء والمماليك، وقُدِّر ثمن كلِّ واحدٍ منهم، ثم "بِيعوا" لأنفسهم بمالٍ من خزينتهم الخاصة، ليصبحوا بعدها"أحرارًا"شرعًا، ويحق لهم تولي المناصب.
ومن هنا لُقِّب العز ب "بائع الأمراء" لأنه باعهم لأنفسهم ليُطهِّرَ ولايتهم من شبهة العبودية.
و موقف آخر من مواقفه الخالدة حدث بعد وصول «قطز» لسدّة الحكم في مصر ظهر خطر التتار و وصلت أخبار فظائعهم، فعمل العزَّ على تحريض الحاكم واستنفاره لملاقاة التتار الزاحفين، ولما أمر قطز بجمع الأموال من الرعية للإعداد للحرب، وقف العز في وجهه، وطالبه ألا يأخذ شيئًا من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يُخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم المقادير التي تتناسب مع غناهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق، فإذا لم تكفِ هذه الأموال للإعداد للمعركة، فليفرض ضرائب على الناس، فنزل قطز على حكمه. وخرج المسلمون للقاء المغول في معركة «عين جالوت» وانتصروا.
استمر العز بعلمه وهيبته وحب الناس له، إلى أن وافته المنية عام 660 هـ – 1262م، وهو يبلغ من العمر ثلاثًا وثمانين عامًا، ومما يُروى أنه عندما بلغ السلطان بيبرس وفاته قال: «لم يستقر ملكي إلا الساعة، لأنه لو أمر الناس فيَّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره»، أي أنه لو قال للناس اخرجوا عليه لانتزاع الملك منه لبادورا لأمره.
رحمَ الله سلطان العلماء العز بن عبد السلام
و أكثَرَ من أمثاله.
المصادر:
-كتاب قصة التتار للدكتور راغب السرجاني
-الجزيرة نت
التعديل الأخير بواسطة المشرف: